الآن بدأت أفهم لماذا نستحق كل هذه الدهشة الوحشية ، لماذا نمضى إلى القاع ونضرب فى المستنقع . ثمة ماهو فى تركيبنا وجيناتنا فادح وشيطانى ، لو كان ما جرى لو أن الجريمة ، لو كل هذه الفظاعة والبشاعة والقتل الجبان حدثت فى مجتمع آخر لكانت طارت رؤوس حاكمة ولتوارى خجلاً ، ليس وزير الداخلية وحسب وإنما من هم أعلى وأعلى !
يصعب على عقلي أن يتخيل أننا انحدرنا وتدهورنا وأصبح دمنا مباحاً وأطفالنا يخردقهم رصاص جبان . نحن فعلنا ذلك بنا ، بأنفسنا ، عندما سكتنا على العودة إلى الخلف أجيالا وعقود سنوات ، عدنا إلى العشائرية والقبلية ، من لا عشيرة له فدمه ماء ومن لا عائلة له يكون نهباً وملطة وملطمة ! هل نحن هم الفلسطينيون الذين ملأوا الدنيا صموداً وفاخروا الشعوب إباءً وساندوا الثورات وقوى التحرر فى العالم كله ، وأصبحت الكوفية رمزنا والانتفاضة تعبيرنا الذى استقر فى كل لغات الأرض !! لا ليس هذا نحن عندما حمل بعضنا سلاحاً لا يعلم له وجهة ولا يعرف له وزناً ، ولم يُخضعه لقانون ميزان القوة ، ولم يختبره فى سياقه الذى يمضى به نحو الهدف الوحيد وهو الاستقلال والسيادة وتحرير الأرض !
لو كنا فى وطن آخر لما ظل وزير داخلية فى منصبه ولاستقال وزير الصحة خجلاً من بشاعة المشهد وعنف الصدمة ، ولذهب وزراء آخرون إلى التواري احتجاجاً ولأنهم بلا جدوى ولا يملكون حماية طفل برىء يمضى إلى مدرسته ، فيفاجئه الجبناء بصلية تؤدى به وبإخوته .
لو كنا نفهم ونعقل ! كنا تساءلنا هل هؤلاء القتلة نبت شيطانى ، أم أنهم صناعتنا وطرح واقعى لانحطاتنا وفلتاننا ، وكنا تأملنا بعمق هذا الذى نفعله بأنفسنا ، حين نربى قتلة لا ترتجف أصابعهم ولا يحسون بإثم وهم يزهقون من هم أعلى من النفس التى حرم الله الا بالحق ، فيقتلون أطفالا هم فى تراثنا العظيم والعميق أحباب الله .
من الذى أوعز والذى خطط ومن الذى نفذ ؟! فالفاجعة ليست صناعة فرد ولا حتى أفراد عابثين ، وإنما هى انتاج فصيل أو تنظيم أو حزب أو جماعة ، سمها ما شئت . كيف يمكن السكوت على ذلك وكيف ينام هؤلاء الذين أصبحوا فاذا هم أمام كل هذا الهول الذى يضرب فى إعماقنا ، فيجعلها نستحى أن نكون وأن ننتمي وننتسب !
هؤلاء القتلة صناعتنا وهم إرثنا القادم ، الذين ينفلتون منا ولن يستطيع أحد أن يحكمهم بعد اليوم .. إلا إذا كشفنا عنهم ومن وراءهم ، وأخذناهم بالقانون الوضعى وقانون الشرع وقانون الله .
هذه الفاجعة الفادحة الدامية المهينة المخجلة المعيبة الكافرة المدمرة .. مفصل تتوقف عندها كل الأمور وينتصب أمامها المستقبل والمصير . لن معبر إلى مجتمع سوي والى أمن وأمان واطمئنان والى القادم ، إذا لم يأتى الفاعلون إلينا ، أمامنا ، وإذا لم نبدأهم محاسبة لا ترحم . بهذا وحده وبما فيه من قسوة وألم وجلد للذات ، يمكننا اعتبار دم هؤلاء الأطفال ـ أطفالنا ـ قد استرد قدره ، حين يذهب فداء لكل أطفال فلسطين . فاذا لم يأتنا بهم المسؤولون المنشغلون بصراعهم على الكراسي والنفوذ ، فليذهبوا من أمامنا وليغربوا عن وجوهنا . نحن الذين انتخبناهم وجئنا بهم ، ونحن نقول لهم اليوم لا نريدكم .
* * *
لأول مرة أحس قلمى عاجزاً ومكسوراً ، وظننت أن أبلغ تعبير عن ألمى وخجلي من نفسى ومن قومي الذين يصدرون بكل هذه الفظاعة والوحشية ، هو أن أصمت تماماً ويخرس القلم ويتوارى احتجاجاً على أنه يعيش عصر الانحطاط والجهل والعبث الدامي الجبان ، غيري اننى اعتقدت بكل عمري وتجربتى ان السكوت ليس أضعف الإيمان وحسب ، وإنما هو جبن وقبول بالذل وامتثال لقانون وحوش ليسوا وحوش غاب ، وإنما وحوش بشر لا يستحقون تاريخنا ، ولا نستحق ان نعاقبَ بهم .. عذراً أظنى أننا بما فلعناه بأنفسنا نستحق عقابنا.
* * *
كنت قررت ، لو سمحت الجريدة ، أن تصدر دفاتر الايام المخصصة لي يوم كل خميس بشريط حداد اسود دونما كلمة واحدة ، لكننى بعدما عدت إلى نفسي أدركت أن صمتى . يشطب تاريخى . لذا فإننى لا أصمت ، ولو كان القتلة مقنعينأو سافرين ، ولو كانوا بعد هذه الفعلة – بهذا الحجم المروع والجبان لن يتورعوا عن أي فعل . أظن أن علي المسئولين أن يفهموا جملة واحدة وهي : أن الذي يتهاون أو يسمح بجريمة بهذا الحجم سيكون عاجزاً وغيرَ قادرٍ علي حماية مؤخرته.
كيف ينام من يحرمون أما فلسطينية من ثلاثة أطفالها؟! ليسوا وحوشاً وقتلة وحسب ، وانما هم عار يتجول فينا جميعاً ، وأن الذين يتسترون عليهم هم الذين ضغطوا على الزناد وهم الجبناء .
* * *
لم أفهم بعد لماذا؟! أريد أحداً أن يعيرنى عقله إذا كان يفهم ! تعبت وأنا أقلب الأمور على وجوهها وقفاها . هل وصلنا إلى استسهال قتل وعبثية ، لا تفرق بين الكبار والأطفال ؟ والد الشهدء لا يستحق كل هذا القتل المثلث ، لم نسمع عنه سوى كل خير .. لماذا لماذا ؟!!
* * *