أتأهب للسفر إلى الصين، قديماً قالت العرب : اطلب العلم ولو فى الصين كناية عن بعد الّشقة وعظم المشقة ولأن العلم يستحق على انى لا أرتحل لطلب العلم وإن كانت الرحلة إلى الصين فيها المعرفة والمتعة وفيها علم أيضاً. وعندما قالت العرب ما قالته فانها كانت تنظر إلى الصين على أنها آخر الدنيا وربما نهاية العالم، لم نكن نحن على وعى ومعرفة، ولم تكن الصين قد أطلت بعد على العالم المتقدم تُظهر فيما يَظهر أنه تحد عبقرى، لكوابح لو أصابت غيرها من البلدان والأمم لما قامت لها قائمة.
ولسوف تقدم الصين نفسها صانعة للمعجزات. هل كان الفضل فى ذلك للحكيم الزعيم والقائد الروحى للصينين صن يات صن، أم كان ذلك للأب والمعلم والقائد الثورى ماوتسى تونج، الذى وضع نفسه فى المقدمة لينتشل الصينيين من الظلام والجهل ونير العبودية والاستعمار، وليحط بها فوق عتبة تنهض بها وتجعلها قبلة الأنظار، والقادرة فى كل حين على اجتراح المفاجأة، والفوز فى سباقات ماراثونية تتحدث لغة العصر وتنتصر عليه فى تسارعه العالى، فتصطف بروح الثورة وقائدها الذى رفع الشعار الخالد 'مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة' على قدم وساق مع الدول الأكثر تقدماً وتنمية وقدرة على إنجازات تفوق ما تحتمله طاقة البشر .. لعل الدأب أول الدروس المستفادة من الصينيين: بلد يتجاوز ملياراً وثلاثمائة مليون ينهض بكل ما ينهض به ليصعد بهم إلى مصاف الدول الكبرى الحديثة! لا يمكن أن ينهض إلا بدأب يستند على تراث موغل فى الزمن، وحضارة تزاحم أعرق الحضارات وأعتاها. أما الدرس الثانى فربما كان الدرس المستفاد والذى أسس له 'ماو' والحزب الشيوعى الصينى: الانضباط والالتزام والاحترام العام للتعاليم القديمة والتعاليم الثورية المعاصرة، وليس صدفة أن يصطف كل هذا البحر الهادر من البشر، ليعملوا يداً بيد مثل يد واحدة ليعبروا كل هذا العبور.
أما الدرس الثالث فربما كان الدرس الأخطر والأعلى فى تاريخ الصين الحديثة، وهو الإفادة من إيقاع العصر وسرعته وسطوته، لقد فعل الحزب الشيوعى الصينى ما لم تفعله الاحزاب المثيلة فى تاريخها، فقاد منظروها وقادتها وكادراتها العليا أخطر عملية إصلاح وتغيير شجاعة قادت الصين لتضعها إن لم يكن فى المقدمة، فعلى ذلك الطريق حتماً .. لقد اقتضى ذلك بدون شك مرونة سياسية ، إجتماعية، وقدرة خارقة على الخروج من أمراض جمود، كانت العامل الحاسم فى انهيار أحزاب شيوعية كبرى، وانكفاء بلدان ودول، وإختفاء وربما نشوء كيانات لم تكن موجودة أصلاً. هل ما فعله الصينيون حما الصين وحدها ؟ ربما استنتج إلى أن الصينيين فى طريقهم إلى استعادة توازن العالم، بعد أن أدى انهيار الشيوعية فى بلدان أخرى إلى انهاء الحرب الباردة، ونشوء القوة العظمى الوحيدة أو القطب الوحيد فى العالم، الولايات المتحدة الأمريكية.
لا أعرف أحداً من قادة الصين الحديثة، ولكننى أحسب أنهم متتابعين قَطَروا بلادهم بسرعة صاروخية ليلحقوا بالعالم. لقد صبروا على أن ينتهى الانتداب البريطانى على هونج كونج حتى نهايته التى تقارب مئة عام، وصبروا حتى على المستعمرة البرتغالية 'مكاو' فى الثغر المواجه لهونج كونج، وهم مازالوا يصبرون على وحدة البر الصينى. لقد أحدث الزعماء الصينيون المفارقة واخضعوا النظرية الإشتراكية لمتسارعات العصر وتطوره، فانطلقوا بالبلاد من عصر الأفيون إلى عصر التماهى مع التكنولوجيا الحديثة فى أدق تقنياتها وأعلى ترددها.
أتهيأ للسفر إلى الصين، هذه المرة اعترف أننى أسافر كذلك لطلب المعرفة وإن المعرفة أول العلم، إذن أمضى فى آخر الدنيا. أتهيأ وكلى شغف هذه المرة بخاصة بعد حوالى عشرون عام كان آخرها فى منتصف الثمانينات . هنا تصبح المرة ليست مثلما فى كل مرة...فى الماضى كانت بكين ميدان السلام الدائم 'بين إن من' والشوارع الواسعة المستفيضة فى اتساعها، تشعل فى المشاعر نكهات خاصة حينما كانت مئات ألوف الدراجات تنفجر مرة واحدة فتغرق الطرقات والساحات، فى مشهد بديع فيه جلال يكشف عن قوة، وينبىء عن قدرة على التحدى.