موقع الكاتب الفلسطيني زياد عبد الفتاح 
 
 �������       29/5/2023�         22:46

من أية زاوية، وبأية موضوعية وبلا حسد
الاربعاء 24/1/2007م    01:49ص
سهرت الليلة الماضية مع الولد الفلسطيني الذي بَعدَ خمسة وثلاثين عاماً لم يعد ولداً، ولكنه ظل فلسطينياً خالصاً صافياً يقطر حباً وحناناً وانتماءً. التقيته مثلما اعتدنا أحياناً، في مقهى ديليس، في شارع عز الدين القسام في غزة، تأملته برهة واسعة خطفت فيها تاريخاً أظلنا، وأطلتُ النظر. فجأة خطرت لي فكرة، قلت: يا أحمد هيا بنا ننفرد بنا نتحدث ونحدّث، يبدو أنه استعذب الفكرة، قال مثلما كان يقول عندما كنا قبل ثلاثين أو خمس وثلاثين، حين كان يتوقف ليستوعب، قال بفرح وحماس: ولم لا، هيا بنا.

قلنا كثيراً، ما لا نقوله لو كنا رتبنا أنفسنا لقول أو بوح. أعذب الكلام ما لا يكون مرتباً أو مخططاً أو مرسوماً. قال أحمد: قرأت لك عن 'أبو خالد العملة' وسمعت كثيراً عن رسالته لكنني لم أقرأها. هل تظنها صحيحة كما رويت؟

قلت: أجل فأنا عاصرت أحداثاً وتفاصيل تأتي عليها الرسالة، حتى أكاد أكون أحد شهودها. يقول أبو خالد: لو كان ماجد أبو شرار موجوداً لما حدث الانشقاق! ماجد كان فلسطينياً خالصاً يستقطر وعده الفلسطيني، يرشح بحب فلسطين وبحلم يمضي به حدّ التعصب. لم يكن ليسلم بالقرار الوطني الفلسطيني أو يفرط به، لذلك نسفوه بعبوة أسفل فراشه في فندق فلورا في جادة فيافينيتي في روما.. بوجود ماجد أبو شرار، قائدنا، لم تكن هناك فرصة للانشقاق والخروج على منظمة التحرير وياسر عرفات

وقال صديقي ورفيق العمر أحمد دحبور: كنت في دمشق إبّان الانشقاق، كنت أظن في جزئية محددة تتعلق بالاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، أن ثمة منطقاً يقف الى جانبهم. كانوا يتحدثون عن التفرد والهيمنة!، أدركت فيما بعد ان الاتحاد كان بيضة القبان حيث أنه كان التعبير أو 'بروفه' المجلس الوطني الفلسطيني، كان الكل يضغط حتى  لا ينعقد المؤتمر وتفشل 'البروفة'  كي يفشل الأصل!

وقال أحمد: لا تغادرني الصورة حتى اللحظة، كنت في ذلك الوقت من عام 1983 أمرّ بتونس عابراً ماضياً الى الجزائر، ممثلاً أساساً اتحاد الكتاب في ندوة تنعقد هناك.. أذكر لقاءنا في تونس وحوارنا على مدى ثلاث ليال، اكتشفت خلالها كمّ المغالطات التي كانت تحيط بمنطق الانشقاق، والذين كانوا يروجون له في اتحاد الكتاب هناك! وعندما مررت بتونس عائداً عابراً ماضياً الى دمشق بعد أيام، كانت لنا حوارات أخرى معاً، فتحتَ لي فيها خطوطاً على دمشق لأحاور من أشاء وأحاول كي أعيد للاتحاد وحدته. لكنني اصطدمت بواقع أن هناك من بيتّوا أموراً أخرى، وامتدت الأيام الأحد عشر التي كنت أزمع قضاءها، بين سفر من دمشق وعودة إليها، الى أحد عشر عاماً، عدت بعدها الى الوطن ولم أغادره إلا الى ندوة أو مؤتمر، وبالكاد الى زيارة عائلية.

قلت: أحمد.. أنك طوال عمرك كنت الولد الفلسطيني، كنت مخلصاً وأميناً، ولقد راهنتُ عليك مثلما وثقتَ بي وراهنتَ عليّ، وقدنا معاً مسيرة تأمين النصاب لمؤتمر الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين  في صنعاء، وقال أحمد دحبور' متطارفاً بمرارة' ذلك المؤتمر الذي غدروك فيه. أظن انك دفعت ثمناً غير عادل..

قلت: مازلت  تقول فيها يا صديقي أبو يَسار.. في صحتك.

* * *

اتصلتْ بي قبل يومين فتاة أو سيدة، لا أدري، من مدينة اللد الفلسطينية، قالت: تعبت حتى حصلت على رقم هاتفك طُفتُ بمن اعتقدت أنهم يعرفونك واحداً واحداً، وبما أنك تكتب في دفاتر الأيام، فإنني ظننت أن الجريدة تعرف الرقم، على انني اكتشفت بحيرة بالغة ان رقمك غير متاح وأنهم لا يعرفونه.. ما علينا ها إنني أتصل بك ، باختصار أنا أعدّ لنيل إجازة في الدكتوراه بدراسة عن الشاعر محمود درويش.

كدتُ أعتذر لها لأنها أخطأت العنوان، فأنا استملح الشعر واستعذبه واستنشقه وأحب الشعراء، لكنني لست على موهبة أو ملكةٍ تجعلني مفيداً لدارسه تحاكم شاعراً عالياً مثل محمود درويش. غير أنها فاجأتني بأن الدراسة ليست عن شعر محمود وليس عن الشاعر فيه بقدر، ما هي عن السياسي وعلاقته بمنظمة التحرير وعضويته في اللجنة التنفيذية وأثره في النضال الوطني وعشرات التفاصيل الأخرى!

وكدت أعتذر ثانية لأنني لا أريد الدخول في مناطق قد لا يُعجِبُ صديقي الشاعر أنني أتطرق إليها، غير أنها استفزتني حين أعلنت أن شاعراً يقيم في النرويج قدم شهادته عن محمود درويش، بأنه كان رهن إيماءة من ياسر عرفات! فهو عندما تتأزم الأمور ويحيط به الحرج من كل جانب يومئ الى محمود فيقوم الي المنصة ليقول شعراً ينقذه! وهو أي الشاعر 'النرويجي' يضرب مثلاً بالمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في أواخر الثمانينات، والذي قرأ فيه محمود درويش على منصة المجلس قصيدته الرائعة مديح الظل العالي، والتي علقت عليها في حينه لمحمود قائلاً: ألا تظن أنك تحرج نفسك. ماذا ستكتب بعد مديح الظل العالي، هل تملك التجاوز يومها قال لي واثقاً ومبتسماً: لا تقلق فلسوف أنظم شعراً أعلى وأكثر عمقاً.

 ولا أدري من أين أتى صاحبنا الذي لا أظن أنه كان في ذلك المجلس الوطني في الجزائر، بما يظنه أو يزعمه أو استحب أن يقع في روعه! وقلت لها: بما أنني أعرف محمود جيداً فان قامته الشعرية واعتداده بذاته، لم يكنا يسمحان برهن حركته ولو لياسر عرفات. لقد كنت واحداً من الذين طبخوا الأمسية الشعرية تلك، كان مؤتمر المجلس الوطني في ذلك الوقت مؤتمر الصراع لِتثبيت القرار الوطني الفلسطيني المستقل، وكان الجو عاصفاً والمنظمات الفلسطينية بخلاف فتح والديمقراطية وجبهة التحرير الفلسطينية والحزب الشيوعي وجبهة النضال، تضرب في العمق لزلزلة مكانة فتح وزعامة ياسر عرفات ولقد اجتهدنا لننظم أمسية شعرية تبدد التوتر، لم نكن نحن بدورنا نلتقط إيماءة من ياسر عرفات  وقعت وهما مؤكداً في مخيلة شاعرنا ' النرويجي'!! ولم يكن محمود درويش وحده مرشحاً للشعر في تلك الأمسية ولكنه كان الأول الذي بدأ وكانت قصيدة مديح الظل العالي بجرعة عالية كافية لصرف جمهور المجلس عن أي شعر آخر او حتى للبقاء في مقاعدهم .. لقد أمتع محمود الحاضرين وأشبعهم، فلم يعد هناك من حاجة للمزيد.

إذن ليس ياسر عرفات الذي يومئ وليس محمود درويش الذي يمتثل، ولذا فإن الرواية تحمل أحد احتمالين: إما أنها منقولة ومرويّة، تنقصها الدقة ويضعفها تعدد الرواة واختلاف أهوائهم، وإما أنها رواية حاسدة للنيل من شاعر يُحرج الشعراء، ويثير الغيظ والحسد. ليس هذا وحسب وإنما روت لي الدارسة من مدينة اللد أن أحد الشعراء الفلسطينيين في عمان أكد لها بأن محمود درويش كان صناعة المنظمة، وأنها هي التي سعت لترويجه وكانت توفده الى كل ندوة وأمسية ومهرجان شعر!! ولقد ظننت أنها تمزح لولا أنها ذكرت لي بأمانة علميه اسم الشاعر الذي لحسن حظه أنني أعرفه، بما أنه اشتغل معي عندما كنت رئيساً لتحرير جريدة المعركة اليومية، لمدة خمسة أيام، مديراً للتحرير، لكنه لم يَثبتُ على صمود يرشّحه للبقاء في موقعه. وعندما كتب عن تجربة ' المعركة' أثناء حصار بيروت 'بعد ذلك بسنوات طويلة ادّعى أنه كان وراء إصدارها، وأنه ظل يمارس دوره القيادي فيها، ولم يأت على ذكر اسمي على الإطلاق!! ليس هذا هو المهم وإنما الأهم الذي قاله عن تسويق المنظمة لمحمود درويش.. أظن أن الأولى قبل ذلك أن نتساءل كيف كان يسافر ذلك الشاعر وكل الشعراء، حتى كادوا يطوفون العالم من أقصاه الى أقصاه؟! من أين لهم مهماتهم وتذاكر السفر والتسهيلات هنا وهناك و هناك. أذكر أن محمود درويش وكنا في بغداد وكان ضيف شرف  على مهرجان المربد في عام سبق، وإذا بوزير الإعلام العراقي يطلب مقابلته ويرجوه  أن يكون ضيف شرف على المهرجان مرة أخرى.. يومها قال له محمود وكنت شاهداً على ذلك، إن لديه ارتباطات أثناء المواعيد المحددة للمهرجان، ويومها رد الوزير بأنهم سيرسلون طائرة خاصة تأتي به من أي مكان يكون فيه، لو في أقاصي الأرض، تعود به من جديد بعد ساعات الافتتاح ليحلق بمواعيده ، غير أن محمود أصرّ على أنه لا يستطيع وأعتذر على الرغم من أن آخر كلام الوزير ' إن تلك كانت رغبة الرئيس القائد صدام حسين!' ولم يذهب درويش الى المهرجان ولم يشارك في 'المربد' ذلك العام والأعوام الذي تلته.. لو كانت هذه الحادثة جرت مع أحد غير محمود درويش لكانت دارت رأسه، حتى أنها تلف حتى الآن..

وقلت للأخت الدارسة في نهاية المطاف: إن ما أفعله ليس دفاعاً عن الشاعر بقدر ما هو دفاع عن الحقيقة ولأمانة الدارسة، وبعيداً عن الحب والكره والولاء والحسد.

وعلى الرغم من أن المكالمة قد طالت وأصبحت ثقيلة على النفس، إلا أن الأخت فاجئني بسؤال حول ما جاء في الرسالة التي كتبها محمود لياسر عرفات في استقالته من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.

وقلت أنه لم تكن هناك رسالة على الإطلاق. دُهشتْ وسألتْ كيف بّرر محمود استقالته أمام ياسر عرفات، وقلت أن محمود كان ينطلق في استقالته من أمرين: الأول أن أعباء القيام بدور قيادي في اللجنة التنفيذية تستهلك وقتاً وجهداً وسهراً لا يقدر عليه ولا يحبه. أما الثاني وهو الأهم وهو ما قاله لي أثناء نقاشنا في بيتي في تونس حول استقالته الحاسمة، بأنه دوره الأساس هو دور شاعر وأن السنوات العشر أو العشرين التي تتوفر له، يحبٌ أن يكرسها لكتابة الشعر. و أشتهدت على أن محمود ظل على ثبات موقفه، بأن أبو عمار قبيل العودة الى الوطن بأسابيع وكنت أرافقه في رحلة من تونس الى جنوب أفريقيا، واستدعاني الى مقعده في الطائرة وأسر لي بأنه يريد محمود وزيراً للثقافة في أول وزارة فلسطينية في الوطن.

ولما كنت أعلم موقف محمود بيقين، فإنني صارحت أبا عمار بأنه لن يقبل وشرحت له الحيثيات.. ليلتها ودغدغني بحنان محاولاً استفزاز نرجسيتي للتأثير على صديقي الشاعر. قال: ولكنك تستطيع أن تقنعه، بخاصة وأنني أقدم له عرضاً أعلى وهو أن يكون نائبي كرئيس وحتى كقائد عام..

كنت أدرك أنه لن يقبل، أعرف موقفه تماماً ومسبقاً، ولذا فإنني لم أعلن له العرض الذي أسر لي به ياسر عرفات، ولكنني شئت إبلاغه لمجرد تسجيل ذلك في التاريخ،ولم انتظر منه رداً، على أنني في النهاية أسجل لياسر عرفات أن كان يريد لأول وزارة فلسطينية أن يكون فيها وزيراً للثقافة فيها من حجم شاعرنا.. كان ثِقَلُ محمود درويش حاضراً في ذهن القائد الذي لم يُعهد عنه أنه، يعكف على شعر أو يستعذبه، ولكنه بحس السياسي كان يدرك ثقل الشاعر وأهميته. 
 

إخفاء الكل
||
عرض كافة التعليقات
عدد التعليقات (0)
التعليقات مملوكة لأصحابها ولا تعبر عن رأي الموقع
لا يوجــد تعليقـــات

عنوان التعليق
الاسم
البلد
التعليق
500





هذه الصور هي التسلسل الزمني للتاريخ للكاتب زياد عبد الفتاح
وهي ملك لصاحبها ولا يحق لاحد التصرف باي ماكان من هذه الصور