لا أحد يستطيع أن يحط من شأن العملية الفدائية التي قامت بها الفصائل ذاتها التي صبرت على حفر النفق ثم الوصول إلى موقع عسكري إسرائيلي يقصف الفلسطينيين ويحيل حياتهم إلى موت، وبناهم التحتية إلى خراب.
ولا أحد منا لم يخرج عن طَوْره ولم يفقد رشده وهو يواجه هذا الإرهاب الرسمي المنظم، إرهاب الدولة بكل المقاييس.. لكن السؤال الأعلى والذي هو فوق العملية الفدائية النوعية ذاتها وكل عملية أخرى يتلخص في كيف ندير العملية السياسية التي تطرحها العملية العسكرية؟!
كنت أظن أننا ينبغي أن نقرأ كل ما هو داخلنا وحولنا، وأن نقرأ في المعطيات والمتغيرات وأن نحسب بميزان الذهب: فالذين يملكون أوراقاً ضعيفة يجب أن يستثمروا ورقتهم القوية بحسابات دقيقة، فلا يشتطّوا ولا يبالغوا، بقدر ما ينبغي لهم ان يقاربوا الواقع الممكن.. لقد أدت العملية دورها ولا يحق لأحد أن لا يذهب إلى قطف الثمار ، ولكن كيف وبأي أسلوب وأدوات ؟ثمة حلول يمكن بلوغها، وعلينا أن نبلغ ذلك من خلال قنوات خلفية، أثبتت في كل وقت أنها قادرة على صناعة ما لا تستطيع القنوات العلنية فعله.
في السياسة ليس هناك من نهائيات، ومثلما لا يستطيع الإسرائيليون في قضية الجندي الأسير أن يبلغوا موقفاً ثابتاً متصلباً لا يكسر، فإننا أيضاً لا نستطيع اجتراح عناد لا يتزحزح، بخاصة وأننا لا نملك أوراق ضغط فاعلة وإن كنا نملك حماساً وتشجيعاً ، وتصنيفاً يضر ولا ينفع... نملك قعقعةً لا تُورث طحناً.
* * *
لو كانت المقبرة الشرقية في نابلس مقبرة يهودية ، لو كانت شواهد قبورها تحمل أسماء موشيه وجلعاد، لو كانت تضم رفاتا غير رفاتنا واقتحمناها وانتهكنا حرماتها بمثل الفظاعةوالوحشية التي قام بها الجيش الإسرائيلية على مدار ما يقرب من يوم كامل، لقامت الدنيا ولم تقعد .
لسوف نراهم يتسابقون في إدانتنا... ولسوف يظهرون على الفضائيات يرطنون بكل اللغات ، يستنكروننا، ويلعنوننا ويصفوننا بالإرهاب ومعاداة السامية والعنصرية!!
لم يحرك أحد ساكنا سوى على استحياء حتى الذين يرطنون لغتنا وحتى المسلمين لم يستفظعوا العبث بجلال الموت وحرمة الأجداث.. هل أصبحنا نعيش العصر اليهودي الذي يجعل من جندي هماً عالمياً تتسابق لمعالجته القنوات الدبلوماسية ،في القمة وأعلى الهرم، فيما تصمت عن مدفعية ورشاشات وجنود مدججين يقتحمون مقبرة، يخردقون قبورها وشواهدها دونما اكتراث لحرمة أو حساب لمحرمات ؟!
* * *
ثمة لغتان علينا نحن الفلسطينيون ألا نقع في مصيدة الخلط بينهما: لغة الخطاب والتحريض في المحافل والتجمعات بهدف الإثارة وحشد التأييد والكسب الوقتي، ولغة المفاوضة التي تتمّ غالباً عبر قنوات تحتية أو سرّية ، تقول في الخفاء ما لا تجسر على قوله في العلن، هنا ندخل في ازدواجية تلفظها المبادئ وترفضها السياسة ونمضي إلى كسب سريع لا يؤدي إلى دولة ولا يؤسس لوطن.
* * *
أنا ضد لغة النفاق والحديث المراوغ عن مصر ودور مصر وعظمة رئيس مصر.. وإنني أعتقد أن ثمة واقع يفرض نفسه علينا جميعاً، وهو أن مصر مثلما هي الأردن رئتانا الوحيدتان اللتان نتنفس منهما وفيهما.
لذا علينا أن نتيح الفرصة في قضية الجندي تحديدا – أن تلعب مصر دورها، فهي المؤهلة لصناعة سيناريو قادر على إخراج الكل من المأزق، وتفادي طريق مسدود ينتج كارثة.
* * *
قبل أيام وكل يوم تقصف الطائرات .. تختار أهدافاً ، تضرب بدقة توحي بأن كل صاروخ يعرف طريقه فلا يخطئ أو يمضي إلى غير ما مستقر!!
كيف نصنّف الصواريخ التي قصفت شاطئ بيت لاهيا وشارع صلاح الدين في أسبوع واحد فأحدثت مجزرتي ومجازر أخرى قبلها وقودها الأطفال! هل أخطأت الصواريخ فعلاً أم أنها حرب إبادة عنصرية مبرمجة ضد كل ما هو فلسطيني؟!
* * *
تكون الى مائدة طعامك، ربما تتوضأ لتصلي، أو تداعب طفلك أو حتى تكتب أو تلعب ، أي شئ كل شئ، ثم فجأة تنقض الطائرة! لا تسمع مقدمات انقضاضها. لا تجأر لا تزأر، تتسلل عبر الهدأة ثم فجأه مرة واحدة تخترق جدار الصوت: فرقعة مريعة ما أفظعهم كم هم ساديّون وكم تتلذذون بترويعنا وتعذيبنا.
حين تقصف الطائرة تبلغ هدفاً محدداً ربما تقتل شخصاً واشخاصاً حولهم بينهم نساء وأطفال، لكنها عندما تخترق الصوت تُفرقع في كل شئ: تهزّ، ترجّ الكل وتستنفر خلاياهم، تدق فوق أعصابهم وقد تفقد البعض صوابهم. علينا أن نوجه نداء للعالم كله، لخبراء وأطباء نفسيين يدرسون بدقة ما تفعله الطائرات بشعب بأكمله رجالاً ونساء وشيوخاً وأطفالاً.. وليدرسوا قبل ذلك الدوافع التي تحركهم للعبث بالصحة النفسية والعصبية لشعب بأكمله.. نحن بحاجة لكسر حاجز الصمت على كسر حاجز الصوت.
* * *