ولسوف تشدّني الذاكرة الى أول مرة زرت فيها طهران. كان قرابة صيف 2000، وصلتني دعوة للحضور أو للمشاركة في مؤتمر لنصرة الشعب الفلسطيني والانتفاضة! ولأنني لم أكن على مقربة أو صلة، فإنني دُهشت للدعوة التي تكررت وأصرت على حضوري شخصياً. كانت الدعوة أشبه ما تكون برجاء الحضور الذاتي وعدم الاعتذار أو حتى الإنابة، وكانت موقعة من منسق الإذاعة والتلفزيون الإيراني السيد على لاريجاني. لم أكن وقتها أعرف هوية لاريجاني، ولقد تهيبت بخاصة بعد أن درست أجندة المؤتمر واستعرضت المدعوين من فلسطين ولبنانيين وأردنيين وسوريين وخلافهم، وقدّرت أن معظمهم من جبهة الرفض الفلسطينية وعلى وجه التعميم جبهة الرفض العربية. على أنني حزمت أمري وسافرت الى طهران، كنت اعتقدت أن اهتمامهم ينصب على من يوالونهم، وأنهم بما أنهم من ' الملالي ' أو آيات الله، يطربهم أن يوسع الخطباء منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية شتماً، وأن وجودي سيكون ناشزاً وربما مزعجاً. كانت في ذهني الأنظمة التي تؤله حكامها والتي يكون فيها الرؤساء المعاقون عباقرة أتقياء أو أنبياء، ما علينا؟!
كتبت خطابي فأنا لا أحب الذين يرتجلون فيقعون في زلاّت ألسنتهم، ووضعت في الخطاب كل ما يجب وضعه في ذلك الزمان. كان ياسر عرفات في حصاره ومحبسه فارتفعتُ بالذي لا بشحنة الحديث عن القائد الصامد الرمز الذي لا تَفلّ إرادته ولآلة الإسرائيلية بجبروتها وقدرتها.. كان ياسر عرفات قد رفع شعاره الخالد في قلب المقاطعة المحاصرة المدمرة: 'يريدوني أسيراً أم طريداً أم قتيلاً وأنا أقول بل شهيداً شهيداً شهيداً'
رحبّ الكل بالخطاب وكان أكثرهم ترحيباً الإيرانيون! لم أكن أظن أن خطاباً واضحاً يطرح التعايش والسلام ورفض عسكرة الانتفاضة في ذلك الوقت المبكر، يمكن أن يلقى رضى أو قبولاً، بل انني وأنا أقرأ الخطاب ظنناً أنهم سوف يريدون ظهورهم ويلوون أعناقهم استهجانا! في تلك المرحلة كان الإيرانيون غاضبين وربما كانوا عاتبين على ياسر عرفات وعلى ' جماعة أوسلو' وبشكل أعلى على المنظمة! غير أن ما جرى بعد ذلك خلّف لدي انطباعات أخرى وهي أن الإيرانيين في عصر ' الملالي' أكثر مرونة وقدرة على التعامل مع المحيط والعالم أجمع،وأن الوهم الذي يسكن الرفضيين بأن إيران خلف ظهورهم غالبين ومغلوبين، لا أساس له. كنت اتجول في القاعة في اليوم الثاني للمؤتمر حين جاءني السيد على لاريجاني ' كبير المفاوضين الإيرانيين على مائدة الملف النووي هذه الأيام' قال: أخي الكريم أريد منك أن تصلني بالأخ أبوعمار. هذا هاتفي أرجوك اتصل به لأكلّمه فأشد من أزره، باسم القيادة الإيرانية وباسمي شخصياً!!
لم تكن تلك هي الحادثة الوحيدة، إذ أنهم بعد ذلك بيومين دعونا للمثول بين يدي مرشد الثورة الإسلامية آية الله على خامنئي. وبما أن المكان ساحة أو باحة بحجم قاعة مسجد كبير والجلوس قرفصاء، فأنني بنظرة خاطفة مع بعض زملائي من المجلس الوطني الفلسطيني الذين يقيمون في عمان، اخترنا الجلوس في آخر القاعة حتى تكون ظهورنا الى الجدار، فلا تتخلخل جسومنا وتترنح يميناً أو شمالاً ولا تعرف مستقراً. مرة أخرى جاءني السيد على لاريجاني طالباً مني الجلوس الى جانب المرشد، وأن هناك ثلاث كلمات واحدة لوالد الشهيد الطفل محمد الدرة وواحدة لي وفي الختام يتكلم المرشد بعد أن يقدمنا جميعاً السيد لاريجاني.
عندما حل دوري وكنت قد ارتبكت لسببين:الأول انني على علاقة حميمة بالقلم والقرطاس، أما الخطابة الشفوية فلا شأن عالٍ لي فيها, أما الثاني فيتلخص في حرج فيما تقول أمام المرشد المهاب. قلت: أننا نسمع عنك وأنك مالي الدنيا وشاغل الدول ولذا فإننا جئنا نستمع اليك، نفهم منك ونقف على أوضاع المنطقة والرياح العاتية التي تهب عليها وتعصف بها.
لم أكن وقتها قد ضمّنت مدى ما يدور في عقول آيات الله، ولكنني بعد أن تحدث في تلك اللحظات أدركت أن ثمة سعة أفق وفهماً ومرونة تصاحبها قدرة على استيعاب الحداثة. هذا الرأي اليس نهائياً فقد يستجد ما ينقضه أو يؤيده، ولكنه رؤية تحاول استكشاف ما يجري واستخلاص الدروس والعبر، فهذا صدام حسين والعراق وهو لم يكن امتلك النووي، وإنه كان مخترقاً الى الحد الذين ضربوا فيه مفاعله! وها هي إيران تواصل لعبة الضغط النووي بدراية وحكمة ثم هذا صاحبي العابر على لاريجاني يعبر بإيران عبر مفاوضات شاقة، وسط ضغوط ضخمة لا يصمد أمامها سوى المتسلحين بالثبات على المبدأ وبمرونة خاصة و قادرة في الوقت ذاته.
* * *
هذا يوم آخر من أيام الاعتصام احتجاجاً على الحكومة اللبنانية. لم تهبط فيه الحمية، ولم يخفت الحماس على الرغم من البرد ومحاولات الضغط والسماسرة الذين يؤمون بيروث ويحاولون أن يجدوا لهم موطئ قدم يعزّز مكانتهم الذاتية، أو لدى أوساط بعينها!
الأمر يتعلق بانتصار للمعارضة اللبنانية أو انقلاب على الموالاة، بقدر ما هو بنظرة أعلى تأمل في ظاهرة التصدي الخارجة عن كل مألوف وعلى الخطابة والمتاجرة بالشعارات، والارتفاع باللغة لتدارك العجز. ثمة ما يمكن تسجيله في هذه اللحظات من التاريخ العربي وتاريخ المنطقة، وهو أن المعارضة العملية والمسؤولة التي تحسن توقيت النزول الى الشارع بزخم ومسؤولية، يمكن أن توقف مشروعاً هو الأخطر في تاريخنا: الشرق الأوسط الجديد.
علينا أن نرفع القبعة للمناضلين اللبنانيين مسيحين ومسلمين ودروزاً، مستنيرين ومن كل غارب، الذين وقفوا سداً منيعاً ومصداً في وجه الإرادة الأعظم، إرادة الولايات المتحدة الأمريكية ، القوة المقتحمة الظالمة؟؟ والمفجّرة للحروب والأزمات
* * *
الحنين الى طولكرم.. الى غزة يخلخني، يذبح روحي من الوريد الى الوريد. لا أستطيع سفراً الى طولكرم ، ولا يحملني معبر الى غزة. سفهاء وتافهون الذين يقسمون فلسطيننا، عشت في طولكرم طفولتي كلها أحببتها وعشقتها وعرفت في مرابعها الساحرة صباي وشبابي وعندما عدت، عدت الى غزة فأحببتها وعشقتها وظل البحر يهتف لى فيها، يفسر اختلاف اللون واختلاف الليل بالنهار، العتمة بالضياء، والزرقة الصاخبة الزرقة الهادئة ، الزرقة التائهة بين حروف الأبجدية الفلسطينية, التي يلف رموزها غموض يصعب فهمه وحلّ أسراره!! فلنعد إلينا نمضي الى البسيط الذي يعيدنا سيرتنا الأولى والذي يضعنا فوق ذروة فلسطينية لا تنكسر ولا تهزم.