كان لديه من الكتبة المنافقين و الخطباء و المتزلفين الذين يسمعونه ما يحب أن يسمع, و يزينون له ما يريد وما لا يريد...هؤلاء انقلبوا عليه بعد لحظات من رحيله ، كانوا يشبعونه نفاقاً و يقصٌون عليه طرائف ونوادر تعدل من مزاجه ، و عندما رحل راحوا يطعنون فيه و يديرون ظهورهم !! لسوء حظهم يظهرون يوما بعد يوم قلة و عصبة ، و بلا جذور و لا عمق . أبو عمار يعيش في كل الفلسطينيين . هو مثل زادهم الروحي ، يلجئون اليه كلما تتالت المحن و تصاعدت الازمات ، و كلما شق عصا الوحدة مارقون يظنون أنه يمكن تهريب التاريخ و الفرار به بعيداً عن يقين الذاكرة .
و لا أعرف حكومة أو دولة أو سلطة, تمضي الأن ذكراه الثانية رحيلاً غامضاً مرجح الإغتيال والقتل, دون أن تبحث بحثاً معمقاً ، وتسعى للوقوف على أسرار هي ليست بأسرار، بما أن أكثر من طرف يعرفها, إن لم يكن بالتفاصيل فعلى الأقل بعلمها وقائع لا ريب فيها و لا شكوك : الإسرائيليون الذين ارتكبوا الفعل بالدرجة الأولى ، الأمريكيون الذين لا تمر مثل هذه الحادثة الفاجعة دون أن يعلموا ، والفرنسيون الذين عالجوه وقالوا أنهم حاروا غير أنهم بالتأكيد لم يحاروا... و قبل هؤلاء و هؤلاء الأطباء الذين عالجوه في اللحظات الأخيرة في رام الله ، والمرافقون الذين رافقوه في الأيام قبل اللحظات الاخيرة ، من جاءه بكلمه، من أسرً إليه ومن كان يقدم إليه بيقين ما لا يملك أحد تقديمه غيره من ذاد وشراب ! ثمة عشرات الأسئلة و الملاحظات التي تضع في عنق الفلسطينيين أمانة أن يُبقوا الملف مفتوحاً.
لقد حار الإسرائليون وأسقط في يديهم عندما تعهدوا للأمريكيين بعدم المس بحياة ياسر عرفات ! وظلوا يحاولون حتى وصلوا إلي الجريمة فى لغزها الكامل ، غير أن الجريمة ليست ولن تكون كاملة بما أن أكثر من طرف يعلم أسرارها ، غير أنه له مصلحة في التستر ، أو عليه ضغط فلا يُفضي ولا يبوح !.
في ذكراه يكبر أكثر يتعملق ويتمدد الفراغ الذي خلفه كم إحتجناه ونحتاجه ، أذكر في المرة التي عاد فيها من كامب ديفيد رافضاً ، ذهبنا نستقبله في مطاره ، مطار رفح . كان يعلم أنه سيواجه التنين بكل قوته وشراسته، سيواجه الولايات المتحدة بكامل ثقلها وقدرتها وجبروتها ، وكان يعرف أن دولا كبرى في عالمه أصبحت محرمة عليه أو غير مرحبة به ، وأن الانظمة العربيه العاجزه والمستكينه من حوله له لن تمنحه سوى مجاملات لا تحملها مواقف ، وفيما بعد لا تكلفها أموالاً .. قال له المستشارون وقتها أن الولايات المتحدة ستلاحقه في كل مكان يحل به وكل دولة يعبرها ، وسيجد كل طرقه مسدودة وقد سبقوه إليها .
سألته يومها حينما دخلت عليه مكتبه 'وكنا بصدفه عمياء وحدنا' لماذا كل هذا الرفض يا ريس . هل لنا قِبل بمواجهة القادم, الذي قد يكتسحنا ؟ لماذا لاتنحني فأنت ملك 'الزوغان' في العواصف والمروق من الأنواء . قال هذه لست المرة ليست مثل كل مرة ، يريدونني أن أوقع على صلح نهائي .. لم يقدموا لي ثمناً أقله دولة فلسطنية في حدودد عام1967 وعاصمتها القدس الشرقية ، وبسيادة دولة تملك حلولاً للحقوق العالقة واولها حق العودة قلت: يقولون أنهم قدموا ما يصل إلي 96% من الأرض في مقابل السلام ، مع تعديلات طفيفة في المناطق .. يقولون أنك تضيع فرصة ، هل حسبتها جيداً وهل أنت متأكد أنك لاتضيع الفرصة ؟!.
أزعم أنني عرفته كثيرا ، وكان يضيق أحياناً بنقاشٍ لايقدم ولا يؤخر ، لذا فإن الذين من حوله كانوا يتقون لحظات ضيقه فيلوذون بالصمت أو يهربون إلي موضوعات أخري . في تلك اللحظات أحسسته وحيداً وبه رغبه في البوح ، كأنه كان يناجي ذاته تابع قائلاً : أسمع ياسر عرفات طول عمره كان ينسج الفرص المستعصية بإبرة خياط وصبر لاينفذ ، لم أضيع فرصة كان علي أن أوقع علي كل شي : علي الآجئين والحدود والمياه و الأجواء والأمن ، وكل ما يضمن ويؤمن لهم السيطرة الكاملة انهم يريدون منطقة عازله فى الاغوار وسيطرة كاملة على مرتفعات الضفه ويريدون طي صفحة حق العودة الى الابد بالاختصار يريدوننا بكيان ممسوخ ، شبه دولة وبلا سيادة .
وقال : لا تسمع كلاما غير هذا الكلام ، هناك من أدارت اللقاءات رؤسهم فظنوا انهم قادرون على سحبى الى طاولة التوقيع ، بل إن بعضهم أعطى وعودا لا يملكها للطاقم الامريكي ! كانت تلك أخر الفرص فى ولاية الرئيس كلينتون ، وكان الاسرائليون يراهنون على مرور الوقت وتقدم الزمن .. أنت لم تر ايهود باراك ، كان فى الاضطراب وكان يصرخ فى كل وقت بأن اى اتفاق لم يتحقق ، قبل العودة الى استفتاء اسرائيلى . كان يراهن على استهلاك الوقت وكان بالتأكيد سوف يحقق الهدف ويضيع الوقت ولا نضيع الفرصة !! ونكون وقعنا على صلح تلعننا عليه الاجيال . ياسر عرفات لا يوقع إلا على علم ودولة وسيادة كاملة وعاصمة ، يتخللها حلا عادل لحق العودة وحق الاجئين .
كانت تلك آخر الكلمات فى حوار يكاد يكون من طرف واحد . توقف فوق نظراته السارحة المطوسة بعيدا فى لجة الازرق المتمادى فوق سطح رائق يتأهب لللضطراب ، وقال وهو لا يغادر نظراته السارحة : حتى حدود هذا البحر ليست لنا ولسنا أحرارا ولو فى الصيد ، فكيف فى تأمين هذه الحدود وحراستها وانشاء الموانى فوقها !!
لم يكن ابو عمار وحده الذى اعتقد بأنه لم يضيع الفرصة والذى وقف بعناد أدى الى كل ذلك الحصار والتدمير فى المقاطعه ، والذى انتهى بعد اربع سنوات الى فاجعة تتجاوز ما تحكيه لنا المأسى والقصص الاغريقية .. فاجعة يتجرع فيها ياسر عرفات السم الاسرائيلى الذى يذهب به بعيدا الى باريس ، حيث ترتدى المأساه ، الاخير الغامض ، حين يعرضُ الاطباء عن تشخيص حقيقة ما جرى ! ويكون تقريرهم بغموض أعلى من غموض الجريمة ذاتها .. محمود عباس أبو مازن كان على نفس الاعتراض ، يقول فى كراسة شهيره له حول ما جرى فى محادثات كامب ديفد ، حيث حضر جزأ هاما من المفاوضات يقول : فى كامب ديفد لم نضيع فرصة كان ذلك عنوان الكراس الذى يعبر فى كل حرف داخله عن هذه المعانى .
ياسر عرفات يودعنا كل ما اوغى له فى رحلة ابدية ، نستحقه لأننا شعب مناضل صلب ، لا تعوزه الاراده ولا العناد وبذل الرخيض والغالى .. ولا نستحقه إذا فرطنا فى طلب الحقيقة محل الغموض فى جريمة قتله ورحيله ذلك الرحيل الدامى . ياسر عرفات فى حصاره ، مثل منا فى حياته ، على حافة الجرف وفوق الهاوية ، كان القائد الرمز الاخطر فى تاريخ النضال العالمى .. ومن غرفه صغيرة وسط الحطام والركام ورائحة البارود أربع سنوات ونيف ، ظل صامدا شجاعا لا يرمش ولا يهتز أو يتهدد : كانت مثلما فعل دائما فى كل المفاصل أثناء الازمات والمحن ، يمضى بلا كلل الى اجتراح افق وسياغة امل من نافذة صغيره أو من ثقب إبرة ! ياسر عرفات جعل من تلك البقعة فى المقاطعة محجا لرجال السياسة والزعماء الذين كانوا يأتونه من كل بقاع الارض ، كانوا يعلمون بيقين أن ياسر عرفات فى عرينه الصغير وفى حصاره ، يمسك بالروح الفلسطينية يوجهها ويظل ينفخ فيها بدأب وصبر ، فتمضى به ومعه تطرد اليأس وتهزم المستحيل .