لا أظن أن الرئيس محمود عباس يملك الأوراق الكافية للضغط في الشارع الفلسطيني كي يفرض ما يتمخّض عنه اجتماع مكة من نوايا حسم للاقتتال الفلسطيني الفلسطيني، أو بعبارة أصح لاقتتال الميلشيات التي تُعربد بلا مسئولية في شوارع غزة وحارتها وأزقتها ، أستنتج ذلك لأن 'أبو مازن' لم يكن في يوم أمير حرب، ولم يَقُدْ عصبة، ولم ينخرط في ' تشبيح' لا يُراعي حرمة : لذا فإن ما يملكه من قدرة فوق الأرض لا يتعدى قوة الصفات التي يتحلى بها من صدق ووطنيه وعناد على طريق تثبيت الصواب، الذي يصب في المصلحة العليا للفلسطينيين . هل تؤهله هذه الصفات على أهميتها للتعامل مع الواقع فوق الأرض، المشحون بالنزوات والتطلعات الخارجة عن المألوف، وحسم الفوضى التي تنفلت من عقالها فتصبح بديلاً للنظام والقانون ؟
ولا أظن أيضا أن رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل مؤهل للضغط، كي يلتزم المتقاتلون بكلمة أو اتفاقات قد لا تُرضى الذين كرسوا الاقتتال وسيلة لبلوغ غايات غريبة، ترفضها الأغلبية الفلسطينية الصامتة .. التي ترفض كل تدخل خارجي ومستورد. إنني من موقعي في قلب الوضع الكارثي أستطيع أن أتخيل أن الأمر لا يبدو بمثل هذه السهولة أو البساطة، وأخشى أن تكون الأمور قد خرجت عن كل سيطرة، ولكنني أتمنى أن أكون مخطئاً وأن لا تتحقق نبوءتي، فمثل هذه النبوءات لا تمنح امتيازاً، ولا تشرّف .
أمراء الحرب الذين شرّعوا لحرب الإخوة داخل الشعب الواحد، قد لا يعجبهم ما تتمخض عنه الاتفاقات ! وفي مثل هذه الحالة سوف يتمردون علي منع اتفاق لا يعجبهم ولا يرضيهم فستبدلونه بواقع اعتادوه وربما توافقوا عليه ! إن القتل أول الكبائر وهو ما ترتجف له الروح وتقشعر الأبدان، وعندما يحدث يصبح عادةً واستسهالا وربما طبيعة ثانية . َمنْ قال إن أي تنظيم يمسك بناصية الأمور حتى ولو كان حديديا ؟ إننا حينما نطلق الشر بلا وازع من خشية أو ضمير ، سوف نجني شرا اكبر وعصيانا وفلتانا يصل حد التمادي الذي لا توقفه حدود . ليس هذا وحسب وإنما أيضا – ونحن عشنا التجربة بكل ما فيها من قَبْل- كنا نراهم ينفخون في رماد صراعنا في كل الجبهات، والذين خارجنا يهمهم أن نقتتل لا ليتخلصوا من صليبنا وإنما ليبرأوا ويبرئوا أنفسهم الضالة!!
الخلاصة إنني أعتقد الي أن مثل اجتماعات مكة مضيعة للوقت وإن الحل هو هنا فوق الأرض، ولكن ليس على طريقة ما يجري ولا يؤدي الي نتيجة ، وإنما على طريقة الذهاب الي مصالحة عملية، نمُسك فيها بالسلاح فنجمعه ولا يكون من سلاح غير سلاح السلطة والقانون والشرعية . بخاصة وانه لا لزوم للسلاح أساسا ما دامت ليست هناك من حرب ، وما دامت فرصة الحل السياسي تلوح في أفق ضبابي ، ولكنه أفق علي أي حال..
* * *
ولكي نفهم أكثر علينا أن ندقق في حالنا ، فما يجري ليس من طبيعة الفلسطينيين، وإنما هي عوامل تجتمع لتفعل فعلها في تعميق الهوة وتأجيج الكارثة : قبل أيام تم اقتحام الجامعة الإسلامية، شيئا فشيئا خرجت الأمور عن السيطرة، وأضرموا النار في الجامعة !! قبل ذلك نهبوا ما وصلت إليه أيديهم . وقبل ذلك أو بعده – ليس مهما على الإطلاق – هاجموا مركزا في اليرموك تابعا لبلدية غزة يتدرب في ساحاته المجندون الجدد ، سالت دماء وانتصر فريق علي أخر ! وكانت حصيلة المعركة دامية، ولكنها جاءت معبرة أبلغ تعبير عن جنون عام نشأ في أحضان العنف متعطشٍ الى الهدم والتخريب، حيث تمت سرقة وتفكيك ونهب سيارات ومعدات وأجهزة تخص البلدية تستخدمها لصيانة النفس الفلسطينية من القذارة والدنس، ومن كل ما يزلزلها ! حتى الأعمدة والأسلاك النحاسية للكهرباء والهاتف تم نهبها . ليس هناك من سبب مهما عظم يبرر مثل هذه الجهالة! إنها أملاك عامة وثروة وطنية، وإننا ننتحر حين نسخّر فوضانا وجنوننا لفعل ذلك.!
بعضهم قالوا انه الجوع، غيرهم تفلسف أكثر ففسره بالحقد الجماعي والعبثية وفقدان كل بوصلة كانت تحمي حياتنا الوطنية ! وغيرهم عزا ذلك الي خطط مدروسة لإحراج هذا الطرف أو ذاك .. لا تهمنى كل هذه الآراء وليذهب أصحابها إلى الجحيم ، إنني أنا المواطن الفلسطيني المناضل الصابر الصامد الذي لم ينسَ قضيته، والذي لم يفرط ولم يبع ذاكرته، أرفض كل هذه الذرائع والحجج ، وأصرخ بأعلى الصوت بأن هذا الوطن الذي لم يصبح بَعدُ وطنا ، يبيعه المجرمون وأمراء الحروب، ويتاجرون به وبدمنا
* * *
الفرن الذي بجوارهم أغلق أبوابه وفرّ صاحبه وعماله الى مناطق أكثر أمناً . في تلك اللحظات التي كان فيها الرصاص ينطلق زخات متقطعة ولا هوية، له كان الخروج يعني الخطر .. دار حوار في بيت جيراننا ، ليس هناك من خبز ، ولا حتى لقمة واحدة ، منذ يوم كامل والأولاد بل نحن نتضور جوعا. وقال صاحب البيت: سأذهب الى الدكان القريب أستطلع خبزاً، فإذا لم أجد فسأذهب الى فرن في منطقة محايدة . لم تناقشه زوجته ولكنها رَجته أن يحترس .. لم يجد في الدكان.. وفي المنطقة المحايدة اشترى ما لذّ له من الخبز فليس ثمة من زبائن، وعاد فرحاً.
في طريق العودة كان قناص يوزع طلقاته من فوق سطح برج، يَنتخبُ من يريده ويطلق عليه النار.. استهوته اللعبة، عمره لا يزيد عن ستة عشر عاماً ولم يعد يهمه، فلقد قتل اثنين حتى اللحظة. سدد في اتجاه جارنا العائد بأرغفة الخبز!! قبل أن يطلق النار جاءته طلقات من البناية المجاورة التي تسلل الى سطحها مسلحون آخرون أرْدتهْ قتيلاً، واشتعلت 'الطخطخة' حتى أصبح جارنا في مركز الخطر. ماذا يفعل؟ هل يهرب؟ الى أين يهرب؟! كل الأماكن متساوية.. لحسن حظه لم يرَ القناص وهو يصوّب اليه ولم يدرك أنه كان منذ لحظات قتيلاً مؤكداً، ثم.. لم يدركهم وهم يتراشقون نيرانهم، غير أنه فهم بيقين عندما استقرت رصاصة في قلبه تماماً.. في الثواني القليلة التى فصلتْ بين قلبه وموته، احتضن أرغفة الخبز حدّق فيها وهي مضمّخة بالدم، قبل أن يدقق في الأفق: تراءت له بيروت والأحراش والأغوار و العرقوب، ورفقة السلاح عندما كان كل دم محرماً ومحترماً.. غاب شيئاً وشيئاً وراح يسقط تقتله المرارة والرصاصة الفلسطينية التي عاجلته.. في وطن ليس بعد وطناً!!
* * *
عندما قرر ألفريد نوبل التكفير عن اختراع البارود أو الدنياميت كان يهدف الى تطهير ذاته، وكانت جائزته بمثابة ببلاغ اعتذار عن اكتشاف قاد الحروب الى نسق فظيع من التخريب والتدمير والقتل بالجملة، وفي سياق السباق نحو امتلاك قوة شر أعلى وقدرة قتل وكثافة نيران يمضي التطوير حتى نصل الى القنبلة الذرية فالنووية فالتطلع الى غزو الكواكب ليس سعياً اكتشاف علمي، بقدر ما هو أجل التدمير والتمهيد لحرب النجوم!
ما يجري في بلادنا أشد إيلاماً وإجراماً، نستخدم أسلحة نوبل البدائية لقتل أخطر.. ليس قتل الإنسان الفلسطيني وحسب وإنما قتل القضية الفلسطينية برمتها!! أقترح أن يُمنح أشد أمراء الحرب في بلادنا جائزة نوبل في وجهه الأول وقبل أن يعتذر لكل أطفال وأجيال العالم ويكرس جائزته للعلوم والآداب والفنون والثقافة والسلام.. أن يُمنح جائزة نوبل للحرب ومعها وثيقة تعلن جهالته وحماقته وفوضاه.
* * *
بعض الكتاب العرب بعد أن شاهدوا ما شاهدوه من اقتتالنا الجاهلي، لم يتوقفوا عند حد نقدنا وحتى جلدنا، وإنما تجاوزوا ذلك الى استحضار تاريخنا: يقولون إننا نُفرط بوطن كامل اليوم! ويزعمون أن هذا ليس علينا فلقد فرطنا ببعضه من قبل حين بعنا للمستوطنين اليهود أرضنا. لم يتحدث هؤلاء الكتاب عن أن ما كان يملكه اليهود حتى عام النكبة كان 6% من أراضي فلسطين وأن أكبر الحصص التي بيعت كانت أملاك لبنانيين وشوام! ما علينا.. ' الولد العاطل بيجيب لأهله المسبّة والمتقاتل الباطل بيجيب لشعبه الذل وللوطن الضياع ولتاريخه التزوير والعيب' أيها المتقاتلون كم أنتم أغبياء ولستم من نسيجنا وأنتم عار علينا عظيم.