سؤال ظل يراودني عبر السنوات التي عاينت فيها العمل السياسي:
هل الأمريكيون هم الذين يحكمون الولايات المتحدة (الأمريكية) , أم إنهم اليهود أو اللوبي اليهودي بكل ما يحمله من التراث الرأسمالي والسيطرة الاقتصادية والهيمنة على الإعلام؟
ولقد ظننت بشيء من اليقين أن هذه الدولة القوة العظمى لا يمكن أن تحكمها أقلية أو تتصرف في شؤونها السياسية نخبة أو طغمة أو حتى قوة مالية كبرى , على الرغم من أنها أي الولايات المتحدة تمثل أعلى مراحل الرأسمالية , ففي النهاية هذا بلد له مصالحه وله إستراتيجيته الكبرى التي تسمو فوق مصالح الأفراد , وحتى فوق أية قوة ضغط مهما تعاظم نفوذها .
غير أنني بكثير من التأمل والمعاينة , وأيضا عبر كل هذه السنين , اكتشفت مؤخرا , وفي عهد الرئيس أوباما بالذات , أن ما تقدم ليس بقاعدة ذهبية , وان جماعات الضغط ومصالح القوى الاقتصادية الكبرى (التروستات والكارتلات) , أصبحت بأنياب قادرة على فرض إرادتها وسياساتها ومصالحها على القوة المركزية في الإدارة الأمريكية !
ربما لم يكن هذا واضحا أيام حكم الرئيس جورج بوش الابن , فلقد كان نزقا ومتهورا وقادرا في كل لحظة على اتخاذ قرارات وانتهاج سياسات , لا تحلم بها جماعات الضغط وفي مقدمتها اللوبي اليهودي ! لقد أعفى الرئيس السابق بما كان يتّملكه من اعتقاد بحقه المسيحي في التنبؤ واتخاذ القرار , أعفى اللوبي اليهودي في أمريكا حتى من مجرد بذل الجهد الكافي , لدفعه لتأييد إسرائيل ودعمها ومساندة كل ما تطلبه , ولو بدا شططا لا يقبله العقل ولا المنطق , ولا يتسق مع روح العصر ومقتضيات الحداثة ! فلقد مضى في أواخر عهده المشؤوم إلى تأييد تلك الفكرة العنصرية النزقة , التي طرحت يهودية الدولة فوق أرض هي أصلا ليست ملكا لليهود , وإنما بحكم الشرعية الدولية والتاريخ وحقوق الإنسان وكل حقوق أخرى - أرض فلسطين - التي تجتمع عليها وفوقها الديانات السماوية الثلاث : أعلن من فوق منبر الكنيست ما يفيد بأنه يقر بيهودية الدولة (خطابه في الكنيست بمناسبة مرور ستين عاما على استمرار الاحتلال والاغتصاب ) ! كان جورج بوش نتاج العقلية المسيحية العصبوية المؤمنة بالمسيح المنتظر , والتي استطاعت أن تنتقل بالعنصرية من مفهوم التفوق على أساس العنصر وبالتالي تفوق امة ما .. إلى الإيمان بتفوق ديني ! ومثلما كان هتلر يريد ألمانيا خالصة نقية مؤسسة على العنصر الآري , فان إسرائيل ضغطت بكل أدواتها لتنتزع ما أسمته يهودية الدولة , بمعنى دولة يهودية فوق أرض فلسطين خالصة خالية من الآخرين أو من الأغيار , الذين هم غير اليهود والذين هم أدنى , بمعيار أنهم شعب الله المختار !!
هنا سوف نصل إلى نتيجة أردنا الوصول إلى ترجيح بشأنها , وهي أن الرئيس جورج بوش الابن استطاع أن يتستر – ربما دون وعي أو قصد منه – على ما أخذت الإمبراطورية الأمريكية تنحدر إليه . وعندما بدا لصناع القرار والمحيطين به أن هذه الإمبراطورية آخذة في التآكل , خرجوا به إلى حروب خارجية , تخفي ما راح يلوح في الأفق ويبدو جليا , في مسيرة نهوض الأمم وبدايات انهيار الإمبراطوريات والدول . لقد ظهرت الولايات المتحدة التي لعبت دورا مركزيا في انهيار الإمبراطورية السوفيتية , كوريث وحيد لهذه الإمبراطورية . لقد كنستها من أمامها بسرعة خاطفة , وانفلتت لتشكل عبر عقدين من الزمان على الأكثر تفرّدا , ذهب بها إلى حد الافتتان بقوتها وقدرتها التي لا تحد , غير عابئة بما انتهجته وظلت تنتهجه من سياسات ضربت عرض الحائط , في كل حين , بمبادئ العدالة وحقوق الشعوب ! وطبقت بعنجهية سياسة الكيل بمكيالين , وأدارت ظهرها حتى لحلفائها وأصدقائها في الغرب الأوروبي , الذي ظل ردحا يخشاها , ويقيم حسابا لجبروتها المتنامي و انفرادها بصدارة العالم .
وحيث أنني أود التعبير بدقة لا يكتنفها لبس أو تأويل , فأنني قد أذهب إلى القول إلى أن الولايات المتحدة هي صانعة الحادي عشر من سبتمبر ! وعلى الرغم من أن تصنيف ما جرى في ذلك اليوم الأسود هو عمل إرهابي بكل المقاييس , إلا انه يصح القول أيضا وبنفس المنطق والقياس أن الولايات المتحدة مارست أعمالا إرهابية بمعايير مؤكدة , في أكثر من منطقة وبلد . وان هذا كله لا بد أن يفرّخ ردود أفعال لا نقرها , ولكنها وليدة ومستنسخة . لقد أجل التحدي الذي رفعه الرئيس جورج بوش دبليو بوش لحظة الكشف عن حساب مستحق , كان لا بد أن تدفعه الولايات المتحدة الأمريكية , وهي قد بدأته فعلا !
الآن جاء رئيس آخر من عقل آخر وثقافة مختلفة , بدأ حياته السياسية بخطب عن الحرية والتصالح مع الأمم والشعوب والأديان . وبدأ عهده كمخلص لأمريكا يحاول أن يغسل ما لحق أو لا أقول علق بها من أدران . لم يلتفت أو أنه لم ير إلى أن الولايات المتحدة قطعت شوطا هائلا في ممارسة الأعمال السياسية والعسكرية القذرة , وأن أيدي جنودها ملطخة بدماء قتلة , ولكن أيضا وكثيرا جدا بدماء أبرياء , وأن فرق الأمن وشركات الحماية (بلاك ووتر وخلافها ) عاثت في الأرض فسادا ليس في العراق وحسب أو إنما في أفغانستان ومناطق أخرى من العالم .
هنا وقف باراك اوباما الرئيس الأمريكي الشاب – القادم من ثقافة عصرية, ولون خارج عن النص , ومنطق متسامح مؤمن بالحرية لكل الأمم والأديان والشعوب - موقفا مرتبكا . لم ينتبه , أو ربما انتبه بعد فوات الأوان وتكالب قوى الضغط عليه , فراح يستسلم مرة من بعد مرة معلنا سياسات جديدة متناقضة . ففي القضية الفلسطينية قال كلاما , وأنشأ شعرا أوْ اتخذ خطوات نحو موقف جعله يبدو صارما مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو , الذي انتصر له اللوبي اليهودي في أمريكا بقوة هزت رئيس البيت الأبيض , وأجبرته على تراجع متسلسل مضطرب , بدت فيه شخصية هذا الرئيس القادم من منطقة مختلفة غير قادر على الصمود , وعلى الوفاء بعهوده والتزاماته , بحل عادل للقضية الفلسطينية , يقوم على أساس تحقيق دولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب إسرائيل . لقد عاد ليعلن ولما تنقض سنتان على رئاسته , بأنه لم يكن يظن أن الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية بهذا التعقيد !!
لقد بدا منذ ذلك التصريح أن الإدارة الأمريكية آخذة في التراجع والانحراف عن مسار خططها وسياساتها الخارجية , مذعنة ومستسلمة لأزماتها الداخلية الاقتصادية , ولمحصلة صراع القوى المحتدم فيها الذي يحركه بشكل رئيسي اللوبي اليهودي , ومنغمسة بعمق وانشغال كلي بمآزقها في العراق وإيران وأفغانستان والباكستان والسودان وبلدان أخرى كثيرة , الأمر الذي يجعلنا نتساءل ما إذا كان عصر انهيار الإمبراطورية الأمريكية قد بدأ حقا !
قد يستثقل البعض الإجابة عن هذا التساؤل , وقد يلمح فيه بعض آخر تفاؤلا أو تشاؤما , أو سوء تقدير وغلط , غير أن المقدمات التي نراها ونشهدها تقود إلى النتائج . هذه المقدمات تتلخص في اضطراب الرؤى وارتباك الاستراتيجيات الأمريكية , كما تتلخص في تناقض السعي إلى تحقيق توازن في سياسة الإدارة الخارجية , التي تدفع فيه بأقصى قدر من القوة العسكرية المفرطة في أفغانستان وعلى حدود باكستان , وبإغارات يومية وقتل فادح يطال الأبرياء والمدنيين على تخومها وأطرافها . كما تتلخص في الانصياع – بعد الضياع في دوامة البحث عن حل عادل هو في متناول النظر – إلى إرادات إسرائيلية استطاعت أن تدجّن الضغط الأمريكي وتحوله عن مساره , إلى مسار أقرب إلى النفاق والاستجداء منه إلى الحسم والالتزام : فالإدارة الأمريكية في هذه اللحظات تواجه عنادا إسرائيليا يربكها ويفضح ضعفها , فتحاول انتشال نفسها بإغراءات مذلة تقدمها بسخاء , باعتراف نتنياهو , كثمن لتجميد مؤقت للاستيطان مدته ثلاث شهور !! ثم ....ربما لن يكتمل الموضوع فينتهي عند هذا الحد , ففي مثل هذا القول والمقال , يقتضي الأمر البحث والتنقيب في زوايا ومناطق أخرى ومختلفة .. فالإمبراطوريات تحمل أسباب انهيارها داخلها , وكل انهيار يؤدي إلى انهيارات أخرى متسلسلة , لكن ما يهمنا ليس مقدمات هذه الانهيارات وأسبابها , بقدر ما يهمنا أن نرصد خيبة الحلم والأمل الفلسطيني , الذي ربما يكون الرئيس الأمريكي القادم من ثقافة ولون ورؤى مختلفة , قد حاول النفخ في ذبا لته , فاشتعل قليلا جدا لكنه ما لبث حتى خبا , فالفلسطينيون أفاقوا على واقع أن الرئيس الأمريكي الشاب , لا يملك حتى نفس ينفخ به .